إلى رحمة الله

الأستاذ الدكتور الشيخ السيّد محمد اجتباء الندوي رحمه اللّه

-1429هـ = 1932 – 2008م

 

  

 

 

      إثرَ نوبة قلبيَّة استأثرتْ رحمةُ الله تعالى بالعالم الكاتب الأستاذ الدكتور السيّد محمد اجتباء الندويّ يومَ الجمعة : 15/6/1429هـ الموافق 20/6/2008م عن 76 من عمره الحافل بخدمة الدين والعلم، والأدب واللغة العربيّة، والثقافة الإسلاميَّة . وذلك إثرَ جراحة قلبيَّة أُجْرِيَتْ له بمستشفى "مركز القلب" The heart center بدهلي لصاحبه الطبيب المسلم المعروف بالبراعة في معالجة أمراض القلب الدكتور محمد خليل الله. وكان الفقيد يعاني أمراضَ القلب منذ سنوات مما أضعف صحَّتَه وأنهك قواه .

       أقيمتِ الصلاةُ عليه بجامع الجامعة المليَّة الإسلاميَّة بدهلي بعد صلاة المغرب من الليلة المُتَخَلِّلة بين الجمعة والسبت 15-16/6/ 1429هـ الموافق 20-21/ يونيو 2008م، ووُرِّيَ جثمانُه بمقبرة الجامعة، وصَلَّى عليه بالناس ابنُ شقيقهِ الأكبرِالشيخُ عبيد الله الأسعدي، وحضر الصلاةَ عليه النخبةُ الممتازةُ من العلماء والمُثَقَّفِين ورجال الفكر والدعوة والنشاط الإسلاميّ – إلى جانب طلاّب العلم وعامّة الناس – أمثالُ فضيلة الشيخ أسرار الحق القاسميّ ، والدكتور محمد منظور عالم ، والشيخ عميد الزمان القاسمي الكيرانويّ ، والشيخ عبد الحميد النعماني القاسميّ ، والشيخ أمين عثماني الندويّ ، والأستاذ أختر الواسع ، والدكتور محمد أيوب خان الندويّ ، والأستاذ شفيق أحمد خان الندويّ، والمقرئ محمد سليمان القاسمي إمام وخطيب جامع الجامعة المليَّة الإسلاميَّة، وغيرهم من خيرة الأسرة القاسميّة والأسرة الندويّة المقيمتين بهذه المنطقة الجامعيَّة .

       خلَّفَ وراءه ثلاث بنات وابنًا وزوجتَه . ألهم الله هذه الأسرةَ الكريمةَ وجميعَ أقاربه ومحبيه الصبرَ والسلوانَ ، وأسكنه فسيح جنّاته .

       كان الشيخ محمد اجتباء أحدَ علماء العربيَّة الممتازين في شبه القارة الهنديّة ، ذا ثقافة واسعة، وانفتاح على أحوال العالم، واهتمام بالقضايا الإسلامية ، وتألم على أوضاع المسلمين المتردّية، يعايش همومَ وآلامَ العالمين العربيّ والإسلاميّ ، ويتحرّق على ضعف الأمة المسلمة وهوانها على الأعداء . يشف عن ذلك كلّه كتُبه وكتاباتُه العربيّة والأرديّة . كَتَبَ كثيرًا من الأبحاث والمقالات باللغتين : العربيَّة والأرديَّة، إلى جانب كتب ومُؤَلَّفات رصينة باللغتين أمثال: الإمام وليّ الله الدهلوي وخدماته العلمية ، والأمير صديق حسن خان القنوجي البهوبالي وأعماله العلميّة والأدبيّة، والشخ أبوالحسن الندوي أديبًا وداعيةً ، كلها بالعربيّة والأرديّة ، والمعالم المشرقة بالأرديّة والهندوسيّة، وتاريخ الفكر الإسلاميّ بالأرديّة ، والحقوق الإنسانيَّة في الشريعة الإسلاميّة، والمرأة في الإسلام بالأردية وما إلى ذلك من الكتب التي ستُخَلِّد اسمَه ، وتُدِيم رسمَه ، وتبقى معالمَ خالدةً بعد وفاته ، تستخرج له الدعاءَ من ألسنة القراء المُقَدِّرين لقيمة الكلمة النافعة والحرف السعيد .

       كان من أفاضل المتخرجين في دارالعلوم ندوة العلماء، ومن السعداء المستفيدين من صحبة سماحة الشيخ العلامة أبي الحسن الندوي (1333-1420هـ = 1914-1999م) العلميّة والأدبيّة والفكريّة والدعويّة . وإثر تخرجه منها قصد جامعةَ دمشق ؛ حيث مكث بها خمس سنوات ، ونال منها شهادةَ "البكالوريوس" واستفاد هناك من صحبة كبار العلماء والأدباء والمفكرين الذين أَثـْرَوْا المكتبة الإسلاميَّة برصيدهم العلميّ الأدبيّ الفكريّ الثرّ، وساهموا في صناعة التاريخ العلميّ الأدبيّ الذي بدون ذكره لاتكتمل دراسةُ العهد المعاصر. وعاد إلى الهند فالتحق بجامعة "عليجراه" الإسلاميّة ونال شهادة الماجستير والدكتوراه باللغة العربيّة. ثم عمل أستاذًا لمادة اللغة العربيّة والأدب العربي والمواد الإسلاميّة في شتى الجامعات بالهند وخارجها، وعلى رأسها الجامعة المليَّة الإسلامية بدهلي، وجامعة كشمير، ودارالعلوم ندوة العلماء بلكهنؤ، وجامعة إله آباد، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة بالرياض ، والجامعة الإسلاميّة بالمدينة المنوّرة ، وعمل أيضًا بإذاعة جدّة للغة الأرديّة مُقَدِّمًا للبرامج ومُتَرْجمًا للموادّ .

       وكان عضوًا مُؤَسِّسًا في رابطة الأدب الإسلامي العالميَّة ومن أمنائها ، وعضوًا في المجلس التنفيذي لندوة العلماء ، وظلّ يُدْعَى إلى جامعات الدول العربيّة لإلقاء محاضرات، وحضور مُناسبات.

       وظلّ عضوًا فعَّالاً ممتازًا من أعضاء أسرة اللغة العربيّة في ديار الهند، فكانت لاتستغني عنه لدى مُنَاسَبَة من المناسبات التي كانت تقام باستمرار باسم اللغة والثقافة والأدب .

*  *  *

       كانت معرفتي به قديمةً ترجع إلى بداية عهدي بدارالعلوم ندوة العلماء ، عندما انضممتُ إلى سلك التدريس فيها في أوائل الثمانينيات من القرن العشرين ؛ حيث كان الشيخ كثيرَ الاختلاف إليها، لكونه مُتَخَرِّجًا منها، مُحِبًّا لها، مُهْتَمًّا بالاستفادة من كبار رجالها، ولاسيَّما سماحة الشيخ أبي الحسن الندويّ رحمه الله؛ ولكونه شقيقًا أصغر للشيخ محمد مرتضى المظاهري رحمه الله (المتوفى 1416هـ/1995م) الذي كان عندئذ مديرَ المكتبة العامَّة لدارالعلوم ندوة العلماء ، وكان يسكن بالسكن العائلي داخل محيط الدار ؛ ولكنني لم أُخَالِطْه لحدِّ أن أتَعَرَّف على سيرته وسلوكه وأَطَّلِع على مفتاح شخصيَّته ؛ حيث لم يُتَحْ لي ذلك بحكم اشتغالي المُنْتَظِم بأعمالي الرتيبة الكثيرة التي كانت لاتَدَعُ لي فرصةً للتصرّف تصرُّفَ الفضوليّ، والتطلُّع إلى ماوراءَ الواجبات ؛ ولكنّي عندما صِرْتُ أستاذًا بدارالعلوم / ديوبند، وعُدْت أَتَرَدَّدُ إلى دهلي وإلى بعض الأماكن العلميَّة بحكم عملي صُحَفِيًّا لكوني رئيس تَحريرٍ لمجلة "الداعي" العربيّة الشهريَّة ، أتيح لي فرصةُ اللقاء عدَّة مرَّات مع الشيخ ، فتأثـَّرْتُ من خلقه الحسن، ومُعَاشَرَته اللطيفة، وتَنَاوُله اللَّبـِق للإخوان أكثرَ من تَأَثـُّرِي من علمه وشخصيَّته الأدبيَّة أو الكتابيَّة . وأنا رجلٌ لايأْسِرُني أحدٌ بعلمه بمثل ما يَأْسِرُوني بخلقه وأدبه وتواضعه الإنسانيّ . وكلَّما تَعَمَّقْتُ في شخصه ازددتُ إعجابًا بإنسانيّته وتقديرًا لحلمه وكرمه. وكان أوسعَ وأحسنَ فرصةٍ تلك التي أتاحها لي قسمُ اللغة العربيَّة وآدابها بالجامعة المليَّة الإسلاميَّة بدهلي عامَ 1426هـ/2005م ؛ حيث وَجَّهَ إليَّ القسمُ الدعوةَ المُلِحَّةَ لإلقاء مقالة تربويَّة مُتَخَصِّصة حولَ "كيفيَّة تنمية المهارات اللغويَّة" يومَ الجمعة 18/ شعبان 1426هـ الموافق 23/ سبتمبر 2005م وللمشاركة في ندوة علميَّة قوميَّة بعنوان "تعليم اللغة العربيَّة في الهند .. مشكلات وتطلّعات" عُقِدَت يوم السبت 19/ شعبان 1426هـ الموافق 24/ سبتمبر 2005م . فحضرتُ كلا البرنامجين بمحاضرتين استحسنها الحضورُ . ومن حسن حظِّي أنّ الندوةَ رأس جسلتها الافتتاحيَّةَ الأديبُ والكاتبُ الإسلامي الشهير سعادة الدكتور الشيخ سعيد الأعظميّ حفظه الله مدير جامعة ندوة العلماء بلكهنؤ ورئيس تحرير مجلة "البعث الإسلاميّ" وحَضَرَ جلستها الأكاديميَّة الأولى الأستاذُ الدكتورُ الشيخُ محمد اجتباء الندويّ رحمه الله بمحاضرة قيّمة بعنوان "أهميَّة اللغة العربيَّة في العالم المعاصر" وعقب تقديمه لمحاضرته ، قدّمتُ مقالتي الضافيةَ – بعنوان: اللغة العربيَّة.. تعريفُها اللغويُّ وأهميَّتُها الدوليَّة، ودورُها في تعزيز العلاقات العربيَّة الهنديَّة، وتحسين الاقتصاد" – التي اسْتَمَعَ لها الحضورُ كاملاً في هدوء تامّ قلّما يستمعون هذا الاستماعَ لكلمة مكتوبة تُقْرَأُ عليهم نظرًا في الورق.

       وبعد انتهائي من القراءة أبدى الأستاذ محمد اجتباء إعجابَه البالغ واستحسانَه الكبير لمحاضرتي بلهجة صادقة شَفَّتْ عن نجابته وتواضعه الكبير. ثم انْتَظَمَ لي اللقاءُ معه في مجالس عديدة ، فظل يُكرِّر إعجابه ببحثي المُقَدَّم إلى الندوة . ومن خلال تعامله الكريم معي بهذه المناسبة ومع غيري من الإخوان الكُتَّاب والأساتذة والمُثَقَّفِين المشاركين في الندوة تَرَكَ في قلبي انطباعًا غيرَ عاديّ عن شخصه وصفاته الإنسانيَّة السامية، وتعرَّفتُ عليه حقًّا بهذه المناسبة بشكل لم يُتَحْ لي من قبلُ . وقد قدَّم إليَّ بهذه المُنَاسَبَة بطاقة زيارته قائلاً: أحرص جدًّا على مُتَابَعَة قراءة مجلّة "الداعي" ولكنّها لاتصلني مُبَاشَرَةً، وإنما أَتَلَقَّفُها أحيانًا من قسم اللغة العربيَّة وآدابها بالجامعة المليَّة الإسلاميَّة ؛ فحبَّذا لو تكرّمتم عليّ بنسخة منها.

       وكان ذلك لقائي الأخيرَ معه ، رغم أنّه اتّصل بي تلفونيًّا أكثرَ من مرّة وأشاد بالداعي ورئيس تحريرها وما يكتب فيها بقلمه .

       ولمستُ فيه رجلاً ذا تديّن واعتدال ، وتأنٍّ وهدوء، وحلم وكرم، وزهد في السمعة الكاذبة، والشهرة الواسعة، وإنما كان يحرص على العمل، ويَدَعُه يتكلّم عنه. وذلك صفةٌ ذاتُ معنى أسمى ودلالةٍ أرفع، إذا اتّصف بها عالمٌ كاتبٌ داعيةٌ يتبنَّى رسالةً ويحتضن غايةً، فلا حاجة به إلى الاعتناء بأيّ دعاية وإعلام؛ لأنّ هذه الصفةَ وحدها تكفيه من كلّ وسيلة بإمكانه أن يتّخذها لإشهار نفسه .

       كثيرٌ من الكُتَّاب والأدباء والعلماء يعتمدون السرابَ الخادعَ من الدعاية بأشخاصهم ، ولو أنّهم صنعوا صنيعَ الشيخ محمد اجتباء وأمثالَه، لكفاهم فخرًا ولكفانا تسجيلاً وحديثًا؛ ولاغروَ فقد كان ينحدر من أسرة حسينيّة شريفة ، وكان جدُّه الأكبر الشيخ السيّد جعفر علي ساهم في حركة الإمام أحمد بن عرفان الشهيد رحمه الله (1201-1246هـ = 1786-1831م).

       كان الفقيدُ الكريمُ من مواليد 1932/1351هـ . ومسقطُ رأسه قريةُ "مجهوامير" بمديريّة "بستي" بولاية "أترابراديش" وتلقى مبادئ القراءة والتعليم الابتدائيّ بمدرسة "هداية المسلمين" في مدينة "بستي". وبعد تَقَلُّبٍ طويلٍ بين الأعمال التدريسيَّة كانت جامعة "إله آباد" محطتَه الأخيرةَ، ومنها أُحِيل إلى المعاش ، فاستوطن دهلي ، وكان منزله بقطاع "أوكهلا" بجوار الجامعة المليَّة الإسلامية.

 

(تحريرًا في الساعة 10 من صباح يوم الخميس : 4/8/1429هـ = 7/8/2008م)

 

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال  1429هـ = سبتمبر – أكتوبر  2008م ، العـدد : 10-9 ، السنـة : 32